الهجرة اليافعية

 من الجبل إلى النهر بحثًا عن الجنة الضائعة:
 بقلم: د. سالم عبد الرب السلفي*
هل كان اليافعيّ في هجرته غربًا – مع اليمنيّين الآخرين – يبحث عن الجنّة الضائعة التي افتقدها بانهيار السد؟
 
وهل وفّرت له الفتوحات الإسلاميّة جنّة أخرى تنتظره بعد الموت، فيكون بذلك قد حصل - عوضًا عن جنّتيه الضائعتين في الوطن - على جنّتين دنيويّة وأخرويّة على أرض مصر؟ هل كان يدرك اليافعيّ مع إخوته اليمنيّين وهو يجتاز نهر النيل أنه يجتاز نهرًا من أنهار الجنّة، ليصل إلى الجيزة التي هي روضة من رياض الجنّة، فرضي بالمقام فيها دون سائر أرض مصر، وأصرّ على البقاء فيها قائلا: "مَقْدم قَدِمْناه في سبيل الله، ما كنا لنرحل منه إلى غيره" ؟ لا غرو بعد كل هذا الحبّ والتفضيل أن يخلّد اسم يافع في الجيزة، فيطلق على أحد شوارعها! يافع قبيلة يمنيّة معروفة، ما تزال تحتفظ باسمها إلى اليوم، وهي تسكن المكان نفسه الذي يعرف باسمها منذ مئات السنين: جبل يافع، أرض يافع، بلاد يافع. والنسبة إليها: يافعيّ. ويافع تنسب عند الهمداني (في الإكليل) إلى يافع بن قاول بن زيد بن ناعتة بن شرحبيل بن الحارث بن زيد بن يَرِيم بن ذي رُعَيْن الأكبر، وعند السمعاني (في الأنساب) إلى يافع بن زيد بن مالك بن زيد بن رُعَيْن، ورغم اختلاف النسبين في بعض الأسماء واختلافهما زيادة واختصارًا؛ فإنهما يتفقان في انتهاء نسب يافع إلى رُعين، ورُعين إلى حِمْيَر، وحِمْير إلى سبأ، وسبأ إلى يعرب بن قحطان. واعتمادا على هذا النسب يعتقد أن يافع – كما ذكر حمزة علي لقمان في كتابه (تاريخ القبائل اليمنيّة) – إحدى أيدي سبأ التي تفرّقت بعد انهيار السد. وقد وردت يافع في كثير من الكتب بوصفها بطنًا من رُعين تارة، وبطنًا من حِمْير تارة أخرى؛ ولا خلاف في ذلك؛
"وقد ظهر اسم يافع بقوة في التاريخ الإسلامي الأول بمشاركتها بقوة عسكرية كبيرة في فتح مصر سنة (20هـ)، وهو ما يتجلى في إسناد قيادة ميسرة جيش الفتح إلى مبرّح بن شهاب اليافعي"
 لأن رُعين بطن من حِمْير. ولهذا لم يكن مستغربًا أن نجد اليافعيّ يتسمى بالرُّعينيّ أو بالحِمْيريّ؛ فهناك شخص واحد على الأقل من يافع كان ضمن وفد رُعَيْن إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الصحابي مُبَرِّح بن شهاب اليافعيّ رضي الله عنه، وهناك شخص واحد على الأقل كان ضمن وفد حِمْير هو شريح بن أبرهة اليافعيّ رضي الله عنه. وقد التفت إلى ذلك ابن الأثير في أسد الغابة قائلا: "وليس بين قولهم يافعي وحِمْيري اختلاف؛ فإن يافعًا بطن من حِمْير". ومن تلك الوفادة يظهر أن يافعًا دخلت في الإسلام مع قبائل اليمن في وقت مبكر. وقد ظهر اسم يافع بقوة في التاريخ الإسلامي الأول بمشاركتها بقوة عسكرية كبيرة في فتح مصر سنة (20هـ)، وهو ما يتجلى في إسناد قيادة ميسرة جيش الفتح إلى مبرّح بن شهاب اليافعي، وهو أمر له دلالتان: الأولى أن يافع شاركت بقوة عسكرية ذات ثقل، والثانية أن يافع كانت لها رئاسة بين قبائل حمير تحديدًا، وربما يعود ذلك إلى أن أرض يافع مثلت المسكن القديم للحميريين قبل نزوحهم عنها إلى مواطنهم الجديدة كما ذكر جواد علي في (المفصَّل). ولم تحفظ كتب التاريخ والتراجم من اليافعيين المشاركين في فتح مصر سوى عدد قليل لا يتجاوز عدد الأصابع، وهم:
مُبَرِّح بن شهاب وأخوه بِرْح بن شهاب، وشريح بن أبرهة، وعمرو بن شعواء، ودرع بن يسكن، وثُوَب بن شريد، وحسان بن زياد. ومن المؤكد أن هؤلاء الفاتحين قد نشأوا في جبال يافع باليمن قبل انتقالهم إلى مصر، وهو ما يعطيهم أهمية تاريخية خاصة؛ ذلك أننا لا نعرف عن يافع في اليمن في هذه الفترة شيئا
،وينبغي أن ننتظر إلى نهاية القرن الثالث الهجري
 حتى تظهر أسماء يافعيين عاشوا في اليمن، وذلك من خلال مشاركة يافع الفاعلة في جيش علي بن الفضل القرمطي، وهنا يبرز اسم ذو الطوق اليافعي أحد قادة علي بن الفضل البارزين، وعيسى بن معان اليافعي والي ذمار لليعفريين؛ فضلا عما نتوقع أن يكون الهمداني قد ذكره عن يافع في أجزاء الإكليل المفقودة.
 وقد حلت يافع بعد الفتح مع بقية قبائل اليمن في الجيزة، بعد أن كانت لها مشاركة فعالة في اجتياز نهر النيل ورَكْز علم المسلمين في الضفة الأخرى. وقد ذكر الأستاذ صلاح البكري في كتابه (في جنوب الجزيرة العربية) ان الجيزة
"رفضها مع قبائل يمنية أخرى أن يبنى حولهم حصن الجيزة الذي أمر ببنائه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه خوفًا على المسلمين؛ معلنين بشجاعة نادرة أن سيوفهم هي حصونهم."
 سميت بهذا الاسم منذ أن اجتازت القبائل اليمنية النيل إليها وركزها العلم فيها. وقد ظهر اسم يافع في هذه الفترة ظهورًا واضحًا عندما أعلنت رفضها مع قبائل يمنية أخرى أن يبنى حولهم حصن الجيزة الذي أمر ببنائه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه خوفًا على المسلمين؛ معلنين بشجاعة نادرة أن سيوفهم هي حصونهم. لكن القرعة التي اقترعها عمرو بن العاص لتحديد المكان الذي سيبنى فيه الحصن قد وقعت على يافع، فبني الحصن في خطتهم سنة (21هـ)، وفرغ من بنائه سنة (22هـ)؛ غير أن طائفة من يافع خرجوا من الحصن أنفة منه. ومثل هذا الموقف لم يكن بدعا من السلوك على اليافعي، فلا حصون ولا أسوار في يافع غير بيوتهم، ومن هنا كان تصميم البيت في البناء اليافعي في اليمن إلى اليوم تصميم حصن منيع، وهم يسمون البيت الذي تجاوز الأدوار الثلاثة حصنًا. وتصميم البيت اليافعي يشير إلى أن أصحابه ورثة حضارة مدنية عريقة، وليس ما ذهب إليه الأستاذ عبد الله خورشيد في كتابه (القبائل العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة) - حين عزا هذا السلوك إلى تحكم روح البداوة في أبناء يافع – صحيحا؛ ذلك أن روح البداوة يتناقض مع العمران.
هذا، وكانت خطة يافع في الجيزة مع رُعين، وهو ما يؤكد الصلة القوية بينهما. وقد ذكر ابن عبد الحكم (ت 257هـ) في (فتوح مصر وأخبارها) أن يافع ورُعين اختطت شرقيّ خَوْلان، ثم لَقُوا قبائل الكَلاع، ثم مَضَوْا بين قبائل سبأ والمَعافر وبين إصطبل قرة بن شريك حتى أَصْحَرُوا، ومن جهة أخرى مضت قبيلة مُرَاد بخطتها حتى لَقُوا قبائل يافع ورُعين.
وذكر المقريزي في (الخطط) أن يافع اختطت بوسط الجيزة، وأن بني كعب بن مالك بن الحجر بن الأزد اختطوا فيما بين بكيل ويافع.
واستنادًا إلى هذه الخلفيّة التاريخيّة جاءت تسمية أحد الشوارع الفرعيّة بالجيزة باسم (يافع بن زيد) أبي قبيلة يافع، وهو شارع متفرِّع من شارع مراد بالجيزة، ويقع بين شارعين فرعيين من شارع مراد، أحدهما شارع ابن الأزد والآخر شارع قرة بن شريك. وبالقرب من شارع يافع شارع فرعي من شارع النيل كان يسمى شارع الحِصْن - شارع د. سليم حسن حاليا
"ظهر اليافعيون في مصر بوصفهم فاتحين، ومنهم من كان له شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كمبرِّح بن شهاب وشريح بن أبرهة وعمرو بن شعواء، رضوان الله عليهم. ومن هؤلاء من كان له حديث يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كشريح وعمرو."
  يبدو أنه إشارة إلى حصن الجيزة الذي بني في خطة يافع.
في القرن الهجري الأول ظهر اليافعيون في مصر بوصفهم فاتحين، ومنهم من كان له شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كمبرِّح بن شهاب وشريح بن أبرهة وعمرو بن شعواء، رضوان الله عليهم. ومن هؤلاء من كان له حديث يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كشريح وعمرو، أما مبرِّح فلم يرو حديثا. فأما الحديث الذي رواه شريح بن أبرهة فهو: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كبَّر أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر حتى خرج من منى)). وأما الحديث الذي رواه عمرو بن شعواء فهو: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبعة لعنتُهم، وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي، والمستأثر بالفيء، والمتجبر بسلطانه ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله)).
 ونحن نرى أن مبرح بن شهاب هو أشهر شخصية يافعية في مصر في هذا القرن، فهو صحابي، وقائد ميسرة عمرو بن العاص يوم دخل مصر، وخطته في الجيزة من أشهر الخطط. والظاهر أنه كان رأس يافع في مصر، وربما كان رأس يافع في اليمن قبل دخوله مصر. ومما يدل على شهرته ورياسته قول ابن عبد الحكم: "نزلت يافع الجيزة، فيها مبرح بن شهاب"، وقول ابن يونس (ت 347هـ): "وهو معروف في أهل مصر"، كما ذكر السيوطي والزبيدي في عصور متأخرة أن خطته بالجيزة معروفة.
ونظرا لشهرة هذه الشخصية أطلق اسمها على شارع من شوارع الجيزة متفرع من شارع النيل تحوّل فيما بعد إلى شارع (شوقي الشاعر) ثم مؤخرًا إلى شارع (أحمد شوقي)؛ لأن شوقي بنى فيه كرمة ابن هانئ عندما عاد من منفاه سنة (1920م).
ومن رجال الفتح حسان بن زياد اليافعي الذي ذكر له الأستاذ صلاح البكري في كتابه (في جنوب الجزيرة العربية) قصة لا نعرف مصدرها بالتحديد، ونحن نرويها ثقة بالمؤلف الذي نتوقع أنه قد وقع عليها باطلاعه على كتب أو مخطوطات أثناء دراسته بمصر لم نقع عليها نحن. قال: "جاء في التاريخ أن مرتا القبطية وجدت نفسها أمام جثة روماني في بيتها، فوقفت واجمة، وتوجهت بصلاتها إلى الله أن ينقذها من موقفها الحرج، فبينما هي في صلاتها إذا بالباب يفتح بعنف، وإذا بصوت أجش مرعب: لقد قتلت هذا الروماني أيتها المصرية الخائنة؛ فانتفضت مذعورة، وإذا بها أمام جنديين رومانيين يهددانها؛ فتراجعت إلى الوراء، وفي تلك الساعة الحرجة دخل الباب عربي كالح الوجه، براق العينين، في يده سيف يقطر دما، وما إن وقع نظره على الجنديين الرومانيين حتى وثب صائحا: لن تفلتا منيورب الكعبة؛ فأغمي على تلك المرأة، وبعد أن أفاقت وجدت نفسها مستلقية، وعلى مقربة منها ثلاث جثث والأعرابي
"ثم ظهر في القرنين الثاني والثالث الهجريين جماعة من أهل يافع في مصر، اهتموا برواية الحديث، سماهم السمعاني بجماعة اليافعيين؛ أي: رواة الحديث الذين اشتهروا باسم اليافعي، وعدَّ منهم جماعة."
  جالس إلى جانبها، ذلك الأعرابي هو حسان بن زياد اليافعي الذي التحق هو وإخوته وأبناء عمه بجيش عمرو بن العاص". وظهر في هذا القرن اسم درع بن يسكن اليافعي ضمن قادة جيش ابن أبي حذيفة الستة الذين خرجوا من مصر في شوال سنة (35هـ) إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في المدينة. * ثم ظهر في القرنين الثاني والثالث الهجريين جماعة من أهل يافع في مصر، اهتموا برواية الحديث، سماهم السمعاني بجماعة اليافعيين؛ أي: رواة الحديث الذين اشتهروا باسم اليافعي، وعدَّ منهم جماعة. وهؤلاء اليافعيون لم يعد لهم صلة بيافع اليمن إلا الاسم، فهم من مواليد مصر، أحفاد الفاتحين من أبناء يافع. وهذه قائمة بجماعة اليافعيين من رواة الحديث:

 1. راشد بن جندل اليافعي:
روى عن حبيب بن أوس الثقفي، وروى عنه يزيد بن أبي حبيب الأزدي (ت 128هـ). روى راشد اليافعي عن حبيب بن أوس عن أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: ((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقرب طعاما، فلم أر طعاما كان أعظم بركة منه أول ما أكلنا، ولا أقل بركة في آخره. قلنا: كيف هذا يا رسول الله؟ قال: لأنا ذكرنا اسم الله عز وجل حين أكلنا، ثم قعد بعدُ من أكل ولم يسم؛ فأكل معه الشيطان)).
2. عبد الواحد اليافعي:
روى عنه أبو هانئ الخولاني (ت 142هـ).
 3. عبد الله بن موهب بن الأصرم اليافعي:
روى عنه نضلة بن كليب اليافعي.
 4. نضلة بن كليب بن صبح اليافعي:
حدث عن عبد الله بن موهب اليافعي وعبد الرحمن بن حجيرة الخولاني، وروى عنه حيوة بن شريح التجيبي (ت 158هـ).
 5. أُنَيْس بن عمران اليافعي (ت 169هـ):
روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه وروح بن الحارث بنن
"غير أن يافع بعد هذا الانتشار، ولأسباب سياسية أخرى تتعلق بمعاداة الحكام غير العرب المتوالين على حكم مصر للعناصر العربية؛ ذابت في المجتمعات الجديدة، ولم تعد ذات حضور كبير في تلك المجتمعات"
حنش الصنعاني، وروى عنه عبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرئ وموسى بن إسماعيل النبوذكي ورشدين بن سعد والليث بن عاصم والمِسْوَر بن يحيى.
 6. محمد بن عمرو اليافعي (ت نحو سنة 170هـ):
روى عن ابن جُرَيْج وسفيان الثوري، وروى عنه عبد الله بن وهب. روى محمد بن عمرو اليافعي عن ابن جُرَيْج عن يحيى بن سعيد عن عَمْرَة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((عَقَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن حسن وحسين يومَ السابع، وسَمّاهما، وأمر أن يُماط عن رأسه)). وروى محمد بن عمرو اليافعي عن ابن جُرَيْج عن ابن شهاب عن يحيى بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ((سأل ناسٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال: ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله؛ فإنهم يخبرونا بالشيء أحيانا فيكون حقا. قال: تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيَقُرُّها في أذن وليِّه قَرَّ الدجاجة، فيزيدون فيه أكثر من مئة كَذْبة)).
 7. عبد الله بن الصيقل اليافعي:
روى عنه ابنه سهل.
 8. سهل بن عبد الله بن الصيقل:
روى عن أبيه، وروى عنه ضمام بن إسماعيل (ت 185هـ).
 9. عبد الله بن سعيد بن أبي الصعبة:::
روى عن عبد الجليل بن حميد، وروى عنه ابن وهب (ت 197هـ).
 10. سليمان بن إبراهيم اليافعي:
روى عن ليث بن سعد وضمام بن إسماعيل والثوري، وحدث عنه سعيد بن عفير ويونس بن عبد الأعلى (ت 264هـ).
 11. عبد المتعال بن عمران اليافعي (ت بُعيد 260هـ): 
روى عن عمرو بن أبي سلمة، وروى عنه جبلة بن محمد بن كُرَيْز.
ولا نكاد نجد ذكرا ليافع في القرنين الرابع والخامس الهجريين. هذا من ناحية الزمان، أما المكان فقد كانت الجيزة مسكن قبيلة يافع كما بيّنا من قبل، وفي خطتهم كان حصن الجيزة، وبعضهم خرج من الحصن ليعيش خارجه. ثم انتقل منهم جماعة فيما بعد في تاريخ غير معلوم إلى الصعيد كما ذكر الأستاذ ممدوح الريطي في كتابه (دور القبائل العربية في صعيد مصر). ومنهم جماعة من عقب أُنَيْس بن عمران اليافعي سكنت الريف، ونحن نرجح أن يكون المقصود بالريف في كلام ابن يونس الوجه البحري (الدلتا) الذي يقابل الوجه القبلي (الصعيد). وهناك شخص واحد على الأقل سكن الإسكندرية وعُرف بها إلى جانب اليافعي، هو المحدث السابق الذكر سليمان بن إبراهيم، فقد ذكره السمعاني باسم اليافعي الإسكندراني. وهذا كله يشير إلى انتشار يافع في مصر كلها. غير أن يافع بعد هذا الانتشار، ولأسباب سياسية أخرى تتعلق بمعاداة الحكام غير العرب المتوالين على حكم مصر للعناصر العربية؛ ذابت في المجتمعات الجديدة، ولم تعد ذات حضور كبير في تلك المجتمعات.
ونرجح أن اسم يافع ذاب في أسماء الأسر المنتمية إليها من جهة، وانسحب لصالح أسماء القبائل اليمنية الأكبر عددًا كرعين وحمير وغيرها من قبائل اليمن من جهة أخرى. وقد كان ازدواج اسم اليافعي باسم آخر كالرعيني والحميري إيذانا بذوبان اسم يافع في محلول القبيلة الأكبر.
 وقد صادفنا في أسماء الفاتحين من أبناء يافع من كان يعرف باليافعي والرعيني كمبرح بن شهاب، وباليافعي والحميري كشريح بن أبرهة. وظلت هذه الظاهرة موجودة في الأجيال التالية من أبناء يافع في مصر، فالمحدثان محمد بن عمرو وأنيس بن عمران كانا يعرفان باليافعي والرعيني معًا. * ومنذ القرن السادس حتى القرن التاسع الهجري برز اسم يافع في الحياة العلمية في مصر. ففي القرن السادس قدم الرشيد بن الزبير المصري إلى اليمن، فأخذ منه جماعة، منهم القاضي أبو بكر اليافعي (ت 552هـ). وعندما عاد الرشيد إلى مصر سئل عمن في اليمن من الفضلاء، فقال: "بها جماعة، سيدُهم أبو بكر اليافعي، وقاه الله ورعاه". وفي القرن السابع الهجري وجدنا مخطوطة في التاريخ بعنوانجامع التواريخ المصرية) مؤلفها الإمام العالم حسن بن إبراهيم بن محمد اليافعي،
"منذ القرن السادس حتى القرن التاسع الهجري برز اسم يافع في الحياة العلمية في مصر. ففي القرن السادس قدم الرشيد بن الزبيرالمصري إلى اليمن، فأخذ منه جماعة، منهم القاضي أبو بكر اليافعي (ت552هـ)"
(فرغ من تأليفها في مصر المحروسة سنة (679هـ)؛ غير أننا لم نظفر بترجمة له حتى الآن، على الرغم من أن لقب "الإمام العالم" السابق لاسمه يشي بعلو شأنه ومكانته العلمية الرفيعة. وفي القرن الثامن الهجري سنة (734هـ) كانت مصر على موعد مع أشهر أعلام يافع العالم الشيخ الإمام عبد الله بن أسعد اليافعي (ت 768هـ)؛ فقد دخل مصر في تلك السنة، غير أن الغريب أنه دخل إليها مخفيا أمره لسبب لا نعلمه يقينا، والراجح أنه أراد التفرغ للعلم والعبادة بعيدا عن الأضواء. وفي دخوله هذا زار قبر الشافعي وغيره من المشاهد، وكان أكثر إقامته بالقرافة في مشهد ذي النون المصري، وحضر عند الشيخ حسين الحاكمي في مجلس وعظه بظاهر القاهرة، وعند الشيخ عبد الله المنوفي المالكي بالمدرسة الصالحية، وعند الحويزاوي بسعيد السعداء، وزار الشيخ محمد المرشدي بمنية مرشد من الوجه البحري، وبشّره بأمور، ثم قصد الوجه القبلي فسافر إلى الصعيد الأعلى، ثم عاد إلى الحجاز.
وكنا نتمنى لو أن اليافعي – غفر الله له – سجل رحلته هذه في كتاب، فإن فائدته كانت ستكون عظيمة، وربما أشار إلى بقايا يافع في مصر، لا سيما أنه طوف بها من الدلتا إلى الصعيد. وكان على مصنفات عبد الله بن أسعد اليافعي الكثيرة أن تنتظر قرابة ربع قرن بعد وفاته لتنتشر في مصر؛ فقد ذكر السخاوي في الضوء اللامع أن الأصل في انتشار تصانيف اليافعي بالقاهرة ما حمله من مصنفاته أبو البركات سراج الدين محمد بن عمر الشيشيني القاهري (ت 855هـ) عن ابن المؤلف تاج الدين عبد الوهاب بن عبد الله بن أسعد اليافعي (ت 805هـ) عندما لقيه بمكة.
واستمر اتصال عبد الله بن أسعد اليافعي بمصر عن طريق أبنائه وأحفاده، فهذا ابنه زين الدين عبد الرحمن بن عبد الله (ت 797هـ) قد سمع بمصر من البهاء بن خليل.
 وهذا حفيده عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن عبد الله (ت 827هـ) يدخل مصر، ثم يدخلها في عشرينيات القرن التاسع الهجري أخوه جمال الدين محمد بن عبد الوهاب (ت 858هـ). ويبدو أن هذا الأخير أخذ أسرته معه، ثم تركهم فيها ذاهبا إلى الشام وبيت المقدس ثم عاد إلى مكة؛ فقد ذكر السخاوي أن ابنه عبد الله بن محمد – الذي ولد بمكة سنة 825هـ - نشأ بالقاهرة مع أمه، فلما كبر قدمت به إلى مكة. كما أن أختهما أم كلثوم بنت عبد الوهاب توجهت مع بناتها إلى القاهرة، وماتت بها بالطاعون سنة (833هـ). * وخلال الأربعة القرون الهجرية التالية (من العاشر حتى الثالث عشر) لم يكن ليافع حضور مميز في مصر. وأما في القرنين الهجريين الأخيرين (14-15) فإننا نلمس حضورًا يافعيًا ضمن الحضور اليمني العام في مصر، فاليوم تمثل مصر لأبناء يافع مسكنا وقبلة للعلم ومشفى للمرضى ومنتجعًا للسياحة وسوقًا للتجارة. ويميل اليمنيون عمومًا إلى السكن في محافظة الجيزة، يحدوهم إليها حنين قديم، وكأنهم فيها يجدون أرواح الأجداد تحلق من حولهم وبينهم، تمدهم بالعزم، وتحرسهم من الشرور.
==========**محاضر في قسم اللغة العربية كلية التربية جامعة عدن
 ========== ** نشر هذا المقال في مجلة (تواصل) التي تصدرها السفارة اليمنية بالقاهرة، في العدد الثاني، ربيع 2007، بعنوان (أعلام يافع اليمانيون في مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق